تقدِّم ألكسندرا ويتز قراءة تحليلية في كتاب يتناول العقول التكنولوجية المدبرة التي تقف وراء رحلات الفضاء التجارية الرفيعة.
في 4 أكتوبر 2004، قاد طيار الرحلات التجريبية الأمريكي، بريان بيني، إحدى العجائب المجنّحة إلى الفضاء، ذهابًا وإيابًا. فازت تلك المركبة الفضائية ـ التي تعمل بالدفع الصاروخي، المسماة «سبيس شيب وان» SpaceShipOne ـ بجائزة قدرها عشرة ملايين دولار أمريكي؛ باعتبارها أول طائرة فضائية تجارية تحقق هذا الإنجاز، وهو ما بَشَّر بميلاد صناعة السياحة الفضائية. وبعد عقد واحد، تحطمت المركبة «سبيس شيب تو» SpaceShipTwo أثناء قيامها برحلة تجريبية؛ إثر خطأ في التحكم، ارتكبه الطيار المساعد مايكل ألسبري، ودفع حياته ثمنًا له. حينها، بدا العمل الناشئ تحت شعار «التقِطْ لنفسك صورة في الفضاء» أبعد ما يكون عن الواقع.
في هذا السياق، تتناول الصحافية جوليان جوثري، في كتابها «كيف تصنع سفينة فضاء» How to Make a Spaceship، قصة رحلات الفضاء الخاصة؛ لتتيح للقراء الشغوفين بالتعرف على بدايات هذه القصة الغوصَ في أعماق الصور الأدبية الثرية والجذابة، التي يحفل بها الكتاب، عن حياة المهوسين بالفضاء، ورجال الأعمال، وهواة الطيران، الذين صنعوا «سبيس شيب وان». أمّا القراء الباحثون عن تحليلات عميقة عن علاقة هذا التاريخ برحلات الفضاء التجارية الحالية، فيتعين عليهم البحث في كتب أخرى. ما زالت السياحة الفضائية على قائمة المغامرات المثيرة التي يحلم بها المليارديرات؛ حتى إن وكالة «ناسا» قد تبنَّت رحلة فضائية خاصة، في مقابل نَقْلها معدات علمية، ومياهًا للشرب، وأكياس قمامة إضافية إلى محطة الفضاء الدولية.
كانت جوثري قد تناولت في كتابها السابق «الملياردير والميكانيكي» The Billionaire and the Mechanic (مطبعة جروف، 2013) السعي الدؤوب لرجل الأعمال لاري إليسون للفوز بكأس أمريكا لسباق اليخوت. أمّا في كتاب «كيف تصنع سفينة فضاء»، فتستعرض جوثري مهاراتها الفائقة في متابعة الأثرياء المتحمسين في تنافسهم المحموم للوصول إلى حافة الفضاء، الذي كان، ولا يزال ـ برغم انعدام الجاذبية الذي يربك المعدة، والإشعاعات القاسية ـ مصدر جذب وتنافس بين البشر، منذ عام 1961، عندما تمكَّن رائد الفضاء السوفيتي يوري جاجارين من الوصول إلى المدار.
يأتي بيتر ديامانديس في المرتبة الأولى بين المتسابقين المتعددين، وهو أحد الوجوه البارزة التي تعاقبت على حلم ارتياد الفضاء، وكان قد أسهَم في تأسيس مجموعة طلابية لاستكشاف الفضاء، وجامعة فضاء دولية، وهو في الثامنة والعشرين من عمره. يُصَنَّف ديامانديس ضمن المتعصبين للتكنولوجيا؛ إذ يحسب عدد الأيام التي عاشها، ويسلب لُبّه حقيقة أن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يميز مبانيه بالأرقام، بدلًا من تسميتها. يدور الجزء الأكبر من الكتاب حول جهود ديامانديس في إحداث طفرة في صناعة غزو الفضاء الخاصة. فعلى إثر حالة الإحباط التي أصابته من جرّاء إلغاء البعثات الفضائية، وأملًا منه في فك قيود هذه البعثات؛ لتتجاوز مجموعة رواد الفضاء المنتقين بعناية، اجتمع ديامانديس مع عدد قليل من أقرانه الشغوفين بالتكنولوجيا، وكان ذلك في شتاء عام 1994 بإحدى كبائن جبل كولورادو؛ حيث تفتقت أفكارهم عن تخصيص جائزة كبرى ـ أصبحت تُعرف بجائزة «إكس» X Prize (انظر: Nature 482, 469; 2012) ـ بهدف الدفع بصناعة رحلات الفضاء التجارية قدمًا. وترصد جوثري محاولات ديامانديس للعثور على مموِّل لهذه الجائزة.
في عام 1996، حصل ديامانديس على دعم مبكر من مموِّلين من مدينة سانت لويس بولاية ميسوري، وهي المدينة التي ساعد مستثمروها ـ قبل حوالي 70 عامًا ـ تشارلز ليندبيرج على الطيران منفردًا من نيويورك إلى باريس فوق المحيط الأطلنطي، في رحلة هي الأولى من نوعها. واصل ديامانديس جهوده للحشد من أجل الفوز بجائزة «إكس» المغرية، التي تبلغ قيمتها 10 ملايين دولار. وهنا، تنتقل جوثري إلى المجموعة التالية من الحالمين، الذين تطلَّعوا إلى الفوز بالجائزة المالية. ومن بين هؤلاء.. بيرت روتان، أكبر خبراء هندسة الطيران، ومصمم الطيران غير التقليدي، وصاحب الريادة في العديد من التصميمات، التي منها تصميم الطائرة «فوياجر» Voyager ذات الأجنحة العريضة، التي طافت حول العالم في عام 1986، دون توقُّف، أو دون أن تُزوَّد بوقود إضافي. يدير روتان شركة باحثة عن التفرد في صحراء موجافي بولاية كاليفورنيا، حيث يفتح المهندسون والطيارون التجريبيون الآفاق بلا حدود أمام الطيران. كان روتان قد قرر ـ مدعومًا بأموال بول ألين، الشريك المؤسِّس لشركة «مايكروسوفت» ـ التنافس للفوز بجائزة «إكس»؛ إذ كان يحلم بتصميم ابتكاري، تنفصل فيه المركبة «سبيس شيب وان» عن الطائرة الحاملة، وتعمل محركاتها، وتتقدم نحو نقطة محددة بصورة عشوائية، حيث يبدأ الفضاء، على ارتفاع 100 كيلومتر.
تُلْقِي حكايات جوثري الضوءَ على بيئة روتان، أكثر من الرجل اللغز ذاته؛ فنلمح قلق الزوجة التي يتركها زوجها؛ ليحلِّق في السماء؛ لاختبار مركبة تجريبية، ونسمع عن المهندس الذي صغى مذعورًا في فبراير 2003 إلى أخبار تحطُّم مكوك الفضاء «كولومبيا»، بما حملته من مخاوف إزاء تعرُّض حياة الكثيرين للخطر.
يضم السرد شخصيات أخرى مفعمة بالحياة، مثل جون كارماك، مصمِّم ألعاب الفيديو، الذي أَسَّس شركة «أرماديلو إيروسبيس» Armadillo Aerospace في مدينة ميسكوايت بولاية تكساس؛ بهدف الحصول على جائزة «إكس»، وستيف بينيت، الذي أرسل صاروخه «ستارتشيسر» Starchaser ليحلق فوق الجزء الشمالي الغربي من إنجلترا، والروماني دوميترو بوبيسكو، الذي وَظَّف زوجته ـ أثناء دراسته للهندسة ـ لمساعدته في بناء الصواريخ في الفناء الخلفي لمنزل أبيها. وتبرز في السرد أيضًا أسماء أكثر شهرة، مثل إيريك ليندبيرج، الذي أعاد تنظيم الرحلة، التي قام بها جده على متن طائرة حديثة؛ ليتمكن من مواجهة الضغوط النفسية الناجمة عن الإرث العظيم الذي خلَّفته عائلته في هذا المجال، ولجَمْع الأموال اللازمة للفوز بالجائزة. من بين هذه الأسماء أيضًا سيدة الأعمال أنوشة أنصاري، ورجل الأعمال أمير أنصاري، اللذان وَظَّفا ثروتيهما الشخصية لرعاية جائزة «إكس»، (وفي النهاية، لشراء مقعد لأنوشة في الرحلة المتجهة إلى محطة الفضاء الدولية، وذلك في عام 2006). كما تضم القائمة الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون، الذي ضمن وضع اللوجو الضخم الخاص بمجموعة «فيرجن» على أحد جانبي مركبة الفضاء «سبيس شيب وان»، بحيث تستطيع كاميرات التليفزيون التقاط صورة له في ضوء النهار.
وترسم جوثري صورًا حية للتفاعل بين هذه الشخصيات في خضم تنافسها المحموم، قبل حلول الموعد النهائي للجائزة، الذي كان مقررًا في 4 ديسمبر 2004، إلا أن أحدًا من المنافسين لم يستطع مداناة المنافس العنيد، روتان، الذي حصد الجائزة؛ لتنظيمه رحلتين، قبل الموعد النهائي بخمسة أيام فقط.
يبقى سؤال لم يقدِّم الكتابُ إجابة عنه، يتعلق بما إذا كان هذا الوَلَه بارتياد الفضاء ـ المستمر على مدار عقد من الزمان ـ قد أَحْدَثَ تحوُّلًا بالفعل في رحلات الفضاء التجارية، فبدلًا من الإسهام في جائزة «إكس»، أَسَّس رجل الأعمال إلون ماسك شركة «سبيس إكس» SpaceX في مدينة هاوثورن، بولاية كاليفورنيا، التي تقوم حاليًّا بنقل الشحنات إلى محطة الفضاء (وسوف تقوم قريبًا بنقل روّاد الفضاء، بالتعاون مع شركة «بوينج»). كما تمكنت الشركة المنافِسة «بلو أوريجن» Blue Origin ـ التي أنشأها جيف بيزوس، مؤسِّس شركة «أمازون»، ولم تكن في دائرة الضوء حتى عام 2004 ـ من إثبات ريادتها منذ ذلك الحين بإطلاقها صواريخ شبه مدارية قابلة لإعادة الاستخدام، وموفِّرة للنفقات. ربما يحالف ـ أو لا يحالف ـ الرحلات الفضاء الخاصة نجاح اقتصادي على المدى الطويل، لكن يظل المعنى الحقيقي لسياحة الفضاء لم يتم التعبير عنه على أرض الواقع بعد.
وخلاصة الأمر.. أن كتاب «كيف تصنع سفينة فضاء» يتناول ـ في الأساس ـ العمل التجاري المنظم، المطلوب لتدشين مشروع كهذا، دون أن يلقي الضوء على التفاصيل الفنية، والتاريخ اللاحق. كما يتجاهل الكتاب الحادث القاتل للمركبة «سبيس شيب تو»، ويأتي على ذكره متأخرًا في الخاتمة، دون ذكر انفجار أحد المحركات التجريبية في عام 2007، الذي أودى بحياة ثلاثة من موظفي روتان. ورغم ذلك.. تواصل شركة «فيرجن جالاكتيك» Virgin Galactic ـ المملوكة لبرانسون ـ بيع مقاعد على متن رحلات الفضاء المستقبلية، مقابل ربع مليون دولار للمقعد الواحد. وتتوقع الشركة أن تكون قادرة على إرسال المركبة «سبيس شيب تو» ـ المُعَاد بناؤها ـ إلى الفضاء في أولى رحلاتها التجريبية في وقت لاحق من هذا العام.
المصدر: دورية نايشتر