ألقى مايكل فراداي في عام 1857 محاضرة على جمهور عريض في المعهد الملكي ببريطانيا، عَرَضَ فيها عمله التجريبي الرائد حول تفاعل الضوء مع المادة. عرضت دراسة فراداي الخواص الأساسية للضوء، المتعلقة بانعكاسه وامتصاصه بواسطة جسيمات تتضاءل تدريجيًّا. وظهر خلال عرضه جسيمات دقيقة جدًّا من الذهب، منتشرة في السائل، ذات قدرة على إنتاج ألوان مشرقة، لا يمكن للجسيمات الأكبر إنتاج نظير لها. لم يعلم فراداي أنه كان بذلك قد أنتج “نقط كمية غروانية” CDQs، إلا أنه استنتج بنفاذ بصيرته أن تلك الألوان المميزة كانت نتيجة لدقة حجم حبيبات الذهب. يصف باو وباوندي كيف تمكَّنَا من استغلال الخواص البصرية الفريدة للنقط الكمية الغروانية، في تطوير مقياس الطيف البصري المضغوط القابل للدمج، مع كاميرا الهواتف الذكية، أو القابل للاستخدام كأداة استشعار مصغرة يمكن حمْلها باليد.
لاحظ فراداي وجود حالة خاصة تتيح التعبير عن الطبيعة الكمية للجسيمات. وقد مهَّدت أعماله الطريق لعلم النانو، ولنظرية الكَمّ، إلا أن الفيزيائيين لم يربطوا بين الظاهرة التي رآها، وتأثير الحجم الكمي، إلا بعد مرور 125 عامًا. وبات من المعروف اليوم أن تعريض النقط الكمية الغروانية للضوء يؤدي إلى إثارة بعض إلكترونات هذه الجسيمات، نتيجة اكتسابها طاقة من فوتونات الضوء. وعلى عكس الجسيمات الكبيرة والمواد الصلبة، فإن الأبعاد النانوية لجسيمات النقط الكمية تحتجز الإلكترونات، وتغيِّر قيمة فرق الطاقة بين حالتي الإثارة والاسترخاء. تصدر النقط الكمية الغروانية الضوء مع ارتخاء الإلكترونات من مستوى الطاقة الأعلى إلى المستوى الأدنى (الشكل-1). ويعتمد لون الضوء على فرق مستويات الطاقة، وهو مرتبط بشكل حساس بحجم الجسيمات التي يمكن التحكم فيها عند إنتاج الـنقط الكمية الغروانية. وتتيح الأسس الفيزيائية لهذا السلوك استخدام النقط الكمية الغروانية في القياس الطيفي.
الشكل 1 | النقط الكمية الغروانية

بمجرد أن تستثار بواسطة الضوء فوق البنفسجي (المصور)؛ تتألق الجسيمات الغروانية المعلقة متناهية الدقة ـ التي تُعرف بالنقط الكمية الغروانية CDQs ـ بألوان مختلفة، اعتمادًا على حجم جسيماتها. تمكَّن باو وباوندي2 من استغلال الخواص الضوئية الامتصاصية الفريدة للنقط الكمية الغروانية في تطوير مقياس طيف بصري مضغوط، يُستعمل كأداة قوية لتحليل الخواص الطيفية للضوء.
تميل المقاييس الطيفية البصرية المستخدمة في هذه التطبيقات إلى أن تكون معقدة ومكلفة، نظرًا إلى مكوناتها البصرية والميكانيكية العديدة عالية الدقة، بالإضافة إلى شروط التجميع الصارمة للقطع وضبطها. من جهة أخرى.. فقد نجد ضعفًا في إنتاجيتها، ناتجًا عن تبعثر أو امتصاص معظم الضوء الداخل إليها عند عبوره من خلال المكونات العديدة، وقبل وصوله إلى الكاشف لتحليله. وأخيرًا، فإن القدرة على تمييز وفصل طولين موجيين متقاربين تتطلب عادة أجهزة كبيرة. وقد تمكَّن باو وباوندي من تخطي العديد من هذه العقبات، عن طريق الدمج المحترف للتكنولوجيا النانوية مع مستشعرات الصور المستخدمة في الكاميرات الرقمية. يعتمد هذا المقياس الطيفي على تصميم يتضمن مرشحات امتصاص عريضة النطاق، وهي مشابهة للطبقة المستخدَمة في النظارات الشمسية، بغرض حجب الأشعة فوق البنفسجية. تتكون هذه المرشحات من سلسلة من النقط الكمية الغروانية، كل منها بحجم جسيمي محدد.
يمكن تفسير مفهوم هذا التصميم، إذا أخذنا مثلًا حالة المستشعر المنفرد، والمرشح البصري الامتصاصي عريض النطاق. تكشف المستشعرات الضوء المرئي، ويمتص المرشح كل الأشعة الضوئية ذات الطول الموجي الأقل من الطول الموجي التصميمي القاطع المحدد للمرشح (يقاس هذا الطول الموجي بشكل مستقل). وفي الحالة المثالية، يجب أن ينقل المرشح الضوء بكفاءة، طالما كان الطول الموجي أعلى من الطول الموجي القاطع.
والآن، لنفترض إضافة مستشعر آخر مع مرشح آخر مضبوط على طول موجي قاطع مختلف قليلًا، ومن ثم تتم إضاءة أزواج المستشعرات والمرشحات بواسطة محتوى لوني غير معروف. وعندها سيكون الفرق بين الإشارات المسجلة بواسطة المستشعرين مقياسًا لقيمة قوة الضوء الموجود بين الطولين الموجيين القاطعين المختلفين. من حيث المبدأ، فإن التوسع في هذا المفهوم عن طريق زيادة أعداد المستشعرات والمرشحات سيزيد من نطاق الألوان المُقَاسَة، وسيزيد من القدرة على التفريق بين قوة الضوء في أي لونين متجاورين.
وقد تمكَّن باو وباوندي من تحقيق هذا التدرج عن طريق تطبيق وضبط مقاييس 195 مرشحَ نقط كمية غروانية امتصاصيًّا عريض النطاق على مئات المواضع من مستشعر صور مقسم بوحدة بكسل، وعن طريق استخدام طريقة إعادة تركيب ذات نطاق موسع للتعامل مع مجموعة كبيرة من قراءات المستشعر. وقد أدّت التطورات التجارية في التكنولوجيا النانوية إلى تبسيط صناعة النقط الكمية، والتحكم الدقيق في حجم النقطة. ويمكن استخدام نقط كمية غروانية كمرشحات امتصاصية عريضة النطاق قابلة للضبط، لأن خواص كل من الامتصاص والانبعاث الطيفيين تختلف باختلاف حجم الجسيمات. وقد أصبح متاحًا اليوم إنتاج نقط كمية غروانية ذات ألوان امتصاص قاطعة بتفاوت دقيق ومختلف بشكل مستمر، بدءًا من البنفسجي الداكن، حتى الأطوال الموجية القريبة من درجة الأشعة تحت الحمراء. يمكن لهذه الحلول أن تُرسَم مباشرة بواسطة وحدات بكسل مستشعر الصور، باستخدام الطباعة بنفث الحبر، أو الطباعة بالتَّماس المباشر. وقد أدى ثبات النقاط الكمية المرسومة على المدى الطويل إلى توفير عمر زمني مناسب للجهاز. وبناء على تلك العوامل المحورية، تمكَّن باو وباوندي من تطوير مقياس طيفي للنقط الكمية الغروانية خاص بهما. كما تجاوزت بساطة تصميمهما العوائق المشاهَدة عادةً في المقاييس الطيفية التقليدية.
قد تتكامل التطورات المستقبلية في التكنولوجيا النانوية وإمكانية تسويقها مع مواد النقط الكمية الغروانية اللازمة للقياس الطيفي فيما وراء الطيف المرئي. ومن مجالات الأبحاث الواعدة.. تلك التي تهتم بالنقط الكمية الغروانية الكالكوجينيدية، وهي ذات خواص انبعاث وامتصاص ضوئية، تمتد إلى أطوال موجية تحت حمراء أطول7. ولا بد من تجاوز أكثر للتحديات التقنية؛ من أجل تحسين مواد النقط الكمية الغروانية، والإقلال من الخسائر الضوئية. أما إذا أمكن جعل رسم النقط الكمية أوتوماتيكيًّا على المستشعرات الصورية بشكل عملي، فسيتيح ذلك خفض التكاليف التي تحدّ من دمج هذه التقنية على نطاق واسع في الإلكترونيات الاستهلاكية. وقد نرى في المستقبل مطياف نقط كمية غروانية صغيرًا جدًّا وعالي الدقة، مستخدَمًا في المهمات الفضائية، أو في عناصر الاستشعار المنتشرة في الأجهزة المنزلية الموصولة بالإنترنت.
المصدر: دورية نايتشر