قد يكون البعوض من أكثر ما يُسأل عن علّة وجوده، وهو القاتل النهم للبشر. لكنّ الجواب على ذلك قد يأتي من مجموعة باحثين حاولوا قلب الآية وتحويل البعوض من ناقل للأمراض الحيوانيّة إلى مساعد على اكتشافها ووأدها في مهدها.
لو بحثنا عن القاتل الأوّل للإنسان، بعد الإنسان نفسه، لوجدنا أنّه البعوض. تُقدّر منظّمة الصحّة العالميّة عدد الضحايا جرّاء أمراض ينقلها هذا النوع من الحشرات بأكثر من مليون ضحيّة سنويّاً. وعلى الأغلب، فإنّه في الوقت التي فتحت أو تصفّحت فيه هذا المقال وبدأت القراءة، قد توفّي طفل في مكان ما في العالم بسبب مرض الملاريا، الذي تنقله أنثى البعوض. ولا يقتصر دور هذه الحشرات على نقل الأمراض بين البشر، بل هي بمثابة الواسطة الأهمّ بين مطبخ الأمراض الأبرز، وهو عالم الحيوان، وبين عالم الإنسان.
ورغم أنّ البعض قد يرى في البعوض شرّاً مطلقاً، إلّا أنّه قد يكون مفتاحاً لحلول كبيرة، وبالتحديد في اكتشاف الأمراض والأوبئة المستجدّة أو الناشئة، والتي بتنا على موعد متكرّر معها في العقود الأخيرة. فأمراض مثل جنون البقر، أو إنفلونزا الطيور، أو “إيبولا” كانت حديث العالم عندما عظُم انتشارها بين الناس. وفي ٦٠٪ إلى ٧٥٪ بالمئة من الحالات تكون بداياتها من الحيوانات التي لا يمكن مراقبتها بسهولة، وبالتالي يكون من الصعب تدارك هذه الأمراض.
تسخير البعوض في تحليل الدم
لكن ماذا لو أمكن تلقّف ذلك، بتسخير البعوض نفسه؟ الفكرة في هذا المجال أنّ البعوض يعتاش على مصّ الدم، وهو بذلك لا يستثني أحداً من الكائنات التي تملك دماً. وبالتالي فهو بمثابة إبرة متنقّلة لسحب عيّنات الدم من الكائنات. فلو أمكن للعلماء إيصال هذه العيّنات للمختبرات، ودراستها، لبتنا أمام منجم من المعلومات عمّا يتحضّر من فايروسات أو باكتيريا في طور النشوء بين الحيوانات. وليس بالضرورة أن تكون هذه الأمراض معدية عبر البعوض نفسه، إذ يكفي أن يحمل عيّناتها في دمه كي يتمّ التحليل لكشفها.
ولكنّ هذا أيضاً ليس بالأمر السهل، فالتحدّيات كثيرة وأبرزها أنّه لا توجد أنظمة متطوّرة “تصطاد” البعوض على نطاق واسع أوّلاً، وتضمن الحصول على عيّنات عشوائيّة ثانياً (كي لا تغفل عن أمراض تتشكّل في دوائر معيّنة)، وتُحلّل المعلومات بطريقة سريعة وذكيّة ثالثاً (كي لا تتأخّر عمليّة اكتشاف الأمراض الناشئة).
وكذلك فإنّ مراقبة الحيوانات للتحقّق من أمراض موجودة فيها ليس كمراقبتها لاكتشاف أمراض لم تكن موجودة سابقاً. وما يعقّد العمليّة أنّ الكثير من الناس يسافرون بين قارّة وأخرى، ومنهم من قد يكون مصاباً بمرض في طور النشوء، وملاحظة هذه الظاهرة على مستوى العالم تحتاج لتبادل معلومات سريع وفعّال بين مختلف الدول.
من “الدرونز” إلى تحليل الجينات
قد يكون أوّل الحلول في هذا الإطار ما يعمل عليه باحثون من “مايكروسوفت” مع مجموعة من الجامعات ومراكز الأبحاث الطبيّة لبناء نظام اسمه “Premonition”، والذي يعني “التحذير القَبلي”. تجتمع في هذا النظام مجموعة تكنولوجيّات لم يسبق أن تقاطعت من قبل، إذ أنّه يحوي الطائرات بدون طيّار أو “الدرونز”، مع أفخاخ متطوّرة لصيد البعوض، إضافة لتقنيّات التحليل الآلي (Machine Learning)، والحوسبة السحابيّة (Cloud Computing)، وتحليل الجينات.
بصورة مختصرة، يعمل النظام كالآتي: تتكفّل طائرات ال”درونز” بشكل شبه آلي بنقل أفخاخ البعوض إلى مناطق مختلفة، وتتواصل عبر الشبكة مع خوادم آمنة لتحفظ هذه الأماكن. بعد وقت معيّن، تعيد ال”درونز” هذه الأفخاخ إلى المختبرات محمّلة بمجموعات من الحشرات لتتمّ دراستها. يحلّل الباحثون الدماء في هذه الحشرات، ويجمعون النتائج من مختلف الأماكن، ثمّ يبحثون فيها عن تشكّل أمراض جديدة عبر تقنيّات التسلسل الجيني.
طائرات بدون مسيِّر
ولذلك تعمل “مايكروسوفت” على تطوير “الدرونز” كي تنتقل من مرحلة طائرات بدون طيّار إلى طائرات بدون مُسيِّر، أي أنّها تتحرّك وفقاً لخطة موضوعة سلفاً وتتفاعل مع المحيط ومستجدّاته تلقائيّاً. وهذا بحث تعمل عليه شركة “إنتل” أيضاً. وقد وصلت هذه الأخيرة إلى حدّ تقديم نموذج يتحلّق فيه عدّة أشخاص على شكل دائرة حول “درون” في المنتصف، ويحاول كلّ منهم الاقتراب من الطائرة فتهرب منه باتّجاه الآخر، الذي يقترب بدوره فتتفاداه أيضاً، وكأنّها طابة كرة طاولة يتبادلها اللّاعبون (كما في الفيديو أدناه).
ومن متطلّبات المشروع أيضاً أن تكون “الدرونز” على درجة من الأمان لا تسمح باختراق خارجيّ، كي تمنع أيّ هجوم أو تشويش. ولذلك فأوّل ما تعمل عليه مايكروسوفت هو نظام تشغيل آمن لا يتعطّل بسهولة، وبرمجيّات خالية من الثغرات. إذ أنّ كلفة العطل في حالة “الدرونز” قد تكون تحطيمها أو إيذاء ما حولها، أمّا في حالة الحواسيب العاديّة، فعادة ما تكفي إعادة تشغيل الجهاز لاستكمال العمل.
روبوتات لاكتشاف البعوض
وحاليّاً، لا تزال أفخاخ البعوض تحمل نفس التصميم والتقنيّات منذ ستّينات القرن الماضي. وبحسب تقرير أعدّه “أليسون لين” من مايكروسوفت، فبعضها يعتمد على الثلج الجاف لجذب البعوض، وهو ما لا يمكن إيصاله بسهولة إلى غابات أفريقيا مثلاً، حيث تتشكّل العديد من الأمراض. والبعض الآخر يعتمد على مواد كيميائيّة تُنقل بالسفن حصراً لأنّ قواعد السّلامة في الطائرات لا تسمح بها. وكذلك فإنّها تعمل على بطّاريات مكلفة يلزم تغييرها عدّة مرّات في السنة. ولذلك وصل الأمر بالباحثين إلى اعتماد طرق أكثر تقليدية في الماضي، كوضع دجاجة تحت فخّ البعوض أو حتى وضع شخص نائم تحتها في بعض الأحيان. المشكلة الأخرى أنّ هذه الأفخاخ لا تفرّق بين البعوض وغيره من الحشرات، ولذلك كان الباحثون يمضون ساعات في تنقية البعوض من غيره، وكأنّهم يبحثون عن إبر في كومة قشّ.
أمّا في نظام “Premonition” الجديد، فهناك أفخاخ “روبوتيّة” تحتاجُ طاقةً أقلّ، وبطّاريات أرخص، وطُعوم مختلفة. وتعتمد على مجسّات (sensors)، تفصل البعوض عن غيره، وموادّ تحفظ البعوض في حالة جيّدة للمختبر، ممّا يوفّر ساعات من العمل على الباحثين.
عيّنات صغيرة و”داتا” مهولة
والتحدّي الأخير هو تحليل ال”داتا” المستخرجة من البعوض. وهنا تتكامل تكنولوجيا التسلسل الجيني مع البيولوجيا الجزيئيّة (Molecular Biology). وللتحدّي وجهان: الوجه الطبّي في ملاحظة الأمراض المستجدّة، والوجه الحاسوبي في معالجة حجم ال”داتا” الكبير الناتج من كلّ عيّنة. الوحدة التي تُقاس بها ما تحويه العيّنة هي “غيغابايت” أي أنّ ما تعطيه بضع مئات من البعوض يكفي ليشغل كامل مساحة حاسوبك في المنزل. وما يُجمع في السنة يُقاس بوحدة “بيتابايت” أي بملايين ال”غيغابايتس”، وهو ما يتطلّب برمجيّات فعّالة وسريعة في المعالجة، لا تتوفّر حاليّاً.
غايات الشركات التقنيّة
بطبيعة الحال، فالنظام ما زال في طور الاختبار، وقد لا يبصر النور على نطاق واسع قبل خمسة سنوات، بحسب القائمين عليه. لكنّه مؤشّر واضح أنّ حلّ المشكلات الكبرى يحتاج إلى تضافر جهود من منظّمات ومراكز أبحاث وشركات تكنولوجية لديها الموارد للعمل على مستوى العالم. ولذلك نرى أنّ شركة “غوغل” أيضاً تعمل على تقنيّات توضع على اليد وتساعد في تدمير بعض أنواع الخلايا أو البروتينات في الدم، في جهد لمحاربة أمراض مثل ال”باركينسون” أو سرطان الدم.
وللبعض أن يتساءل عن الجدوى لشركات مجالها تقنيّات وبرمجيّات الحاسوب والإنترنت في أن تستثمر في مجالات كهذه، ولهذا عدّة تفسيرات. الأسهل هو محاولة توسيع نطاق أعمالها لكسب أرباح من البيع المباشر لأنظمة طبّية، وهو ما لم تصل إليه بعد. لكن قد يكون وراء ذلك ما هو أعمق. فالعصر المقبل هو عصر ال”داتا” بامتياز. ومن يملك المعلومة، يكون في موقع التأثير الأقوى. ووصول مايكروسوفت إلى تحليل عالم الحيوان على هذا النطاق ومعرفة الأمراض قبل تفشّيها في الإنسان يخوّلها البناء على ذلك لتقديم نفسها كرائدة في مجال “الذات المقدّرة كمّياً” (Quantified Self)، حيث يحمل الإنسان هاتفاً أو يرتدي سواراً أو ساعةً تحلّل كلّ ما أمكن من نسبة السكّر إلى ضغط الدم، وذلك من أجل تحسين صحّة الجسم. وعليه، قد تأتي مايكروسوفت أو غوغل مستقبلاً لتروّج سلعها في هذا المجال، قائلة بأنّها أكملت الحلقة المفقودة في مجال صحّة الإنسان، عبر تحليل ما يمكن أن يُصاب به وتنبيهه إلى ذلك مسبقاً، ومن ثمّ مساعدته على العلاج.